للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان من الناس من يذكر ومن ينسى ومن يفي ومن لا يعرف الوفاء، فإن ذلك يفيض على الزمان وعلى المكان! لمّا رجعت إلى بغداد سنة ١٩٥٤ ذهبت أزور المدارس التي كنت أدرّس فيها قبل سبع عشرة سنة: الثانوية المركزية، والمدرسة الغربية، ومدرسة الأعظمية (كلّية الشريعة) التي عشت فيها لياليّ ونهاراتي، ورأتني في يقظتي وفي هجعتي، وكانت يوماً مستقَرّي من دنياي.

أفتدرون ماذا وجدت في هذه المدارس التي ذهبت أزورها؟ جئت المدرسة الغربية التي أعرفها وتعرفني، يعرفني كل مَن كان يعلّم فيها معي من إخواني وكلّ من كان يتعلّم فيها من أبنائي، وتعرفني غرفها وأبهاؤها وممراتها وأبوابها وأركانها وجدرانها. تركت فيها بقايا مني، من أيامي، من أمانيّ وأحلامي، فلما بلغت بابها أُصِبْت بصدمة اهتزّ لها جسدي؛ صاح بي البواب: ممنوع يا أفندي.

فلما رآني ماضياً قُدُماً لا أقف عليه ولا أتلفّتُ إليه وثب يعترضني ويقول: قلت لك ممنوع، فماذا تريد يا أفندي؟ قلت أريد أن أقابل المدير. فتردّد ثم قال لي مستسلماً: تفضّل.

ودخلت على مدير المدرسة، فإذا كهل يدلّ سَمْته على فضل وعلى صلاح، فانتسبت له (كما كانوا يقولون قديماً، أو عرّفته بنفسي كما يُقال الآن)، فرحّب بي، وأراد أن يُكرِمني فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني، فدخل رجلان سلّما وسلّمت، ثم دخلَت صبيّة حسناء سافرة حاسرة، قصيرة الكمّ واسعة الجيب

<<  <  ج: ص:  >  >>