للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان فيها ناس يعيشون)؟ إن هذه الكرة كلها لا تبدو لعينيه أكثرَ من ذرّة مضيئة في الفضاء، كهذه الذرّات التي نراها تسبح في جوّ الغرفة في أشعة الشمس التي تدخل من نافذة الجدار إذا كنس الخادمُ أرضَ الدار.

فما أحقر الدنيا وما أشدّ غرور الإنسان! وغبت لحظة عن حاضري وشعرت كأني أعيش في التاريخ، أمشي مع القوافل التي كانت تحمل خيرات الأرض من الشرق إلى الغرب وتعود بمثلها من الغرب إلى الشرق، وحيثما سارت استظلّت بظلّ العَلَم الإسلامي، عَلَم الدولة التي تملك هذه الأرجاء كلها. وأساير الطلبة الذين كانوا يقطعون هذه المراحل الطوال ويصبرون على المشقّات والأهوال ليروُوا حديثاً أو يتعلّموا مسألة. فما أعظم هِمَم أولئك العلماء!

كنت أعيش في الماضي أيام كان الحكم في الأرض لنا، والعلم فينا، والمال معنا، والمجد في ركابنا، وكل خير بأيدينا، لأن أيدينا كانت ممسكة بمفتاح كل خير، ومفتاحُه القرآن.

وعاد بي إلى الحاضر صوت مضيفة الطائرة تقول بالإنكليزية: العشاء! وهي فتاة مولَّدة، نصفها هولندي ونصفها جاويّ، جمعَت الجمال من أطرافه: فتنة الغرب وسحر المشرق. وجاءت بالعشاء سخناً قد طُبخ في الطيارة. وهذه الطيارة كانت يومئذ عَجَباً من العجب، لم تكن نفّاثة (ولا أظنّها عُرِفت يومئذ الطائرات النفّاثة)، ولولا الألفة والعادة لرأينا فيها معجزة، ففيها ثمانون مقعداً كلّ مقعد له زرّ تكبسه بالأصبع فينقلب المقعد سريراً كاملاً، وفيها

<<  <  ج: ص:  >  >>