للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومرّت بنا الطيارة فوق أرض فارس، فوق إيران؛ البلاد التي ملأ ذكرها تاريخنا، وغلبت أسماء بلدانها على ألقاب علمائنا الذين خرجوا منها والذين غدوا من دعائم صرح مجدنا: الرازي (نسبة إلى الريّ، وهي طهران أو قريبة منها) والقزويني والجرجاني والتبريزي والأصفهاني والشيرازي، وعشرات لهم مثل هذه الألقاب لكل واحد منها في نفوس المتعلّمين منّا والمتأدّبين ذكريات حافلة بالأمجاد.

جزنا العراق ثم طرنا فوق إيران. وهما جارتان، فكيف جارَتا حتى تقاتلتا؟ وهل تتقاتل الأختان أم تتقابلان وتتعانقان؟ وما لهما -وهذه الروابط تربط بينهما- يدع كلّ منهما عدوَّه، بل عدوّهما، ويوجّه قوته إلى الصديق بدل العدو؟!

لمّا جزت بالبصرة من فوق ذكرت أياماً لي فيها لم تكن من أطيب الأيام ولم تكن ذكرياتها من أحلى الذكريات، ولكن المرء يحنّ إلى ما مضى من عمره، كأن فقده منه ويأسه من عودته حبّباه إليه فرأى آلامه مسرّات.

لم أكُن أرى -وأنا أطير فوق هذه البلاد الواسعة- إلاّ أضواء متناثرة، تلوح لحظة من أعماق الأعماق ثم تختفي. فقلت في نفسي: ما أشدّ غرور ابن آدم بهذه الدنيا! إن في هذه الظلمة التي تمتدّ من تحتي لَعالَماً يتنازع أهله، يدفعهم الطمع أو الفزع فيقتتلون ويبيعون الآخرة وما فيها بدنيا هم واثقون من زوالها. وأنا حين علوت في الجوّ لم أرَ من هذا العالَم إلاّ ظلاماً تلوح فيه مصابيح ضئيلة. فكيف يرى أرضَنا كلَّها من يعيش في الكواكب البعيدة (إن

<<  <  ج: ص:  >  >>