ومن عرف هذه البلاد قبل خمسين سنة كما عرفتها ورأى ما وصلَت إليه الآن، في كلّ ميدان، من غير أن تفرّط في شيء من عقائدها أو تدع كثيراً من فضائلها ومن سلائقها، أدرك أن من أراد الجمع بين التمسّك بالدين الذي يكون به النجاة في الآخرة، وبين أعلى درجات التمدن والحضارة التي يكون بها السموّ والفخار في الدنيا، وجده سهلاً ممكناً.
فتحت عيني على الدنيا والعلماءُ في بلدنا (كما كانوا في أكثر بلاد الإسلام) هم قادة الناس وإليهم مرجع أمرهم، إن اعترضَتهم مشكلة في دنياهم رجعوا إليهم في حلّها، وإن كانت مسألة في دينهم طلبوا منهم حُكمها. لا كلمةَ فوق كلمتهم ولا رأيَ بعد رأيهم، لأنهم صدقوا مع الله وذلّوا بين يديه فأعزّهم الله في الناس حتى صدقوهم ومشوا وراءهم. أرادوا الآخرة فأعطاهم الله الدنيا والآخرة.
عهدنا شيخ العلماء في سوريا، الشيخ بدر الدين الحَسَني، يدخل عليه في غرفته الصغيرة في دار الحديث الأشرفية الباشواتُ والولاة أيام الأتراك، والمفوضون والقُوّاد والجنرالات أيام الفرنسيين، فيخلعون نعالهم عند بابها ويقعدون بين يديه على بساطها، ويستمعون إليه وينفّذون ما يطلبه. وما كان يطلب لنفسه شيئاً منهم، بل كان يعظهم وينصحهم ويحثّهم على ما فيه مصلحة الناس.