أتطاول إلى مقامه، فما أنا من رجاله، ولكن لأنه من تواضُعه يتنازل إلى مقامي.
كنت عنده يوماً في إحدى زياراتي لمصر، فجاءه من يقدّم إليه منهج هذه المادّة ليوافق على تدريسها بالأزهر. فكأنه همّ بالموافقة عليها، فتجرّأت عليه فأمسكت بيده (وكان بها شلل أصابه في آخر حياته) وقلت: أستأذنك وأقبّل يدك، فخبّرني ماذا أنت صانع؟ قال: أوافق على تدريس هذه المادّة. قلت: يا سيدي، هذه بضاعتنا ونحن أعرف بها. إنها سمّ فوقه طبقة من الدّسَم أو غشاء من الحلوى ... فصرف من كان أمامه وخلا بي حتى شرحت له الأمر.
قلت لكم إن دمشق كلّها خرجت لاستقبال عبد الناصر لمّا قدمها أول مرة. ولا شكّ أن الفرحة بالوحدة كانت غامرة وأنها شملت أهل الشام كلّهم، ولكن هناك أمراً تقتضيني أمانة القلم أن أُعلِنه، هو أنه ليس كل استقبال في الشام علامة حبّ وفرح ولا كلّ جنازة أمارة حزن وأسى. فإن أهل الشام لِمَلَلهم من حياتهم المتشابهة أيامُها، المتكرّرة مشاهدُها، يبالغون في الاهتمام بكل جديد والاحتشاد لكل قادم والازدحام على كل مشهد، حتى لو أن صاحب (سِرْك) أعلن عن مقدم فيل ضخم ما رأى الناس مثله أو غوريللا هائلة لازدحموا على هذا المشهد وتسابقوا إليه.
ولا يقع في وهم أحدكم أني أشبه عبد الناصر أو غيره بالفيل أو الغوريللا. لا، وإنما أبيّن طبيعة فينا أهل الشام. وبقيّة الكلام في الحلقة المقبلة.