ثم قمت أنا للكلام، فصاح الناس من أركان المسجد: المنبر، المنبر! فصعدت المنبر، وأخرجت أوراقاً كنت كتبت فيها خطبتي على غير عادتي.
وأنا أنشر هذه الخطبة لأول مرّة، لم تُنشَر من قبل في صحيفة ولا في كتاب، ولم يطّلع عليها إلاّ من سمعها في المسجد من نحو ربع قرن، قلت فيها:
لا تعجبوا إن رأيتموني أقرأ في الورق، فما كتبت كلمتي الليلة عجزاً مني عن الكلام، ولكن خوفاً من أن يُفلِت مني الزمام. ثم إني أحبّ أن يُعرَف ما قلت فلا ينقل أحد عني ما لم أقُل.
وكنت أحبّ أن أجعل هذه الكلمة دائرة حول كتاب الله، أصل بها ما كان انقطع بانتهاء رمضان من أحاديث «نور من القرآن» التي كنتم تسمعونها من الإذاعة كل مساء على مائدة الإفطار. ولكني نظرت فوجدت أن لكلّ عمل غاية، ولكلّ غاية طريقاً، ولسلوك كلّ طريق دافعاً. فأحببت أن أبيّن في هذه الكلمة غايتنا -معشر المشايخ- التي نمشي إليها، والطريق الذي نسلكه لبلوغ هذه الغاية، والدافع الذي دفعنا إلى سلوك هذا الطريق.
وأنا -كما تعرفون- من أهل القضاء، مستشار في محكمة النقض في القاهرة (أذكّر أن تلك الكلمة أُلقيَت أيام الوحدة)، والقاضي لا يُحسِن التلميح والتلويح، بل التصريح والتوضيح. وقد كنت من قبلُ من رجال التعليم، والمعلّم لا يفهم لغة السياسة ولكن لغة العلم. ثم إنني من أرباب الأقلام ومن رجال الأدب، والأدب هو البيان ليس الأدب التغطية ولا الكتمان.