لم يقرأها؛ ذلك أني كنت أمضي وقتي كله (إلاّ ساعات المدرسة) في الدار. لم أتخذ لي يوماً رفيقاً من لِداتي ولا صديقاً من أقراني، ولم أكُن (بحكم تربيتي ووضع أسرتي) أعرف الطريق إلى شيء من اللهو الذي كان يلهو بمثله أمثالي، فلم يكُن أمامي عمل أنفق فيه فضل وقتي وأشغل به نفسي إلاّ المطالعة.
وكانت في دارنا مكتبة كبيرة، وهي دانية مني كتبها كلها تحت يدي، ولم أكُن -لشغل أبي عني- أجد من يرشدني ويدلّني، لذلك كنت (كما قلت من قبل) أسحب الكتاب لا أدري ما هو، فأفتحه فأنظر ما فيه، فإن لم أفهمه (أو فهمته ولكن ما أسغته) أعدتُه وقد علق في ذهني اسمه، وإن فهمته وأسغته قرأته.
وكان أول ما قرأت كتاب «حياة الحيوان» للدَّميري، وهو كتاب عجيب فيه فقه، بل هو أقرب مرجع لمعرفة الحكم الشرعي في الحيوان الذي يؤكَل لحمه والذي لا يؤكل. وفيه تاريخ، وفيه فوائد، وفيه خرافات ... ثم قرأت «المستطرَف» و «الكشكول»، وهما من أدب عصور الانحطاط والتأخر. ثم وقعَت يدي على «الأغاني» لأبي الفرج فعلقت به وقرأت أكثر أجزائه، لا أزعم أني فهمت كل ما فيه ولا أني أحطت به، بل أقول إن الذي فهمته منه نُقش على صفحة ذهني. وكنت بحمد الله أحفظ كل ما قرأت وأكثر ما سمعت لأن ذاكرتي بصرية لا سمعية، فأنا يوم الامتحان أذكر مكان المسألة من صفحة الكتاب. وكنت أُعرض عن الأسانيد وأتتبع الأخبار، فحفظت من أسماء الشعراء والمغنّين والعلماء والرواة الكثير، وحفظت كثيراً من الشعر أخذت بعضاً منه بلا ضبط ولا تحقيق. وقد سمعت أستاذنا الجندي مرة يروي بيتاً فيه