وصلّينا صلاة الاستسقاء. ثم قمت بعدها فخطبت خطبة لم أتعمّد فيها بلاغة اللفظ ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم وأن أوجّه قلبي كله لله. ثم تكلّم السيد مكي، رحمه الله ورحم شيخنا الميداني، فكان كلامه أعظم من كلامي، لأنه كان من أرباب القلوب وإن لم يكن من كبار العلماء، وكان من أصحاب الأحوال وإن لم يكن ممّن ينمّق الأقوال. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرَت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صُنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلاّ دعاء مختلطاً بنشيج وبكاء يخالطه دعاء، حتى إن بنات المقاومة الشعبية حاولن أن يغطّين أجسادهن بمقدار ما استطعن، ثم انضمَمْن إلى نسائنا ودعون مثل دعائنا وبكين مثل بكائنا! وكان موقفٌ ندر أن يُرى مثله. وإن من الذين حضروا هذا المشهد كثيراً من المتعاقدين الذي يعملون الآن في المملكة، فاسألوهم عنه يحدّثوكم حديثه.
إن الإيمان -يا أيها القُرّاء- مستقرّ في قرارة كل نفس، ولكنه مُغطّى. ومن أسرار العربية أن الكفر في أصل معناه هو التغطية والستر. الإيمان موجود ولكن تتراكم فوقه غبار الشبهات وأوزار الشهوات وهموم الحياة، حتى يخفى فلا يراه الناس، بل إن صاحبه لا يكاد يحسّ به، فإن ذُكّر فذكر نفض عنه هذا الغطاء وظهر إيمانه واضحاً جلياً.