للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم أرَ شكري رحمه الله من أربع سنين، من يوم زارني في داري في مكّة، ولكنني أعرفه من أكثر من خمسين سنة. كان أستاذاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، فلما بلغ سنّ التقاعد (أو أُحيلَ إلى المعاش كما يقولون في مصر) جاء المملكة فكان أستاذاً في الجامعة في المدينة المنوّرة.

كان عصامياً، خاض لُجّة الحياة قبل أن يستكمل عُدّة خوضها، وجرّب الطيران صغيراً قبل أن ينبت ريش جناحَيه، فما زال يضرب بهما، يقوم ويقعد ويرتفع ويقع، حتى قوي الجناحان وامتدّت قوادمهما وقويَت خوافيهما، فَعَلا وحلّق.

أصله من حارتنا من حيّ العقيبة، وكان أبوه وعمّه من «زكرتية» الحارة، الذين يُدعى أمثالهم في مصر بالفتوّات وفي لبنان «القبضايات» وفي العراق «أبو جاسم لر». و «لر» علامة الجمع في لغة الترك، وكانوا يعلّموننا على العهد العثماني في الشام اللغة التركية مكتوبة بالحرف العربي كما تكتب الأردية والفارسية، وكما كانت تُكتب لغة أندونيسيا قبل أن يبدّلوها. وأذكر أنه كان عندنا في كتاب القراءة «جوجقلِرْ مكتبه كِدِيور» أي «الأولاد يذهبون إلى المدرسة». وأنا أحفظ ممّا تعلّمناه من التركية في تلك الأيام شيئاً ليس بالكثير ولكنه باقٍ في ذهني إلى اليوم.

وكانت أسرة الفتوّات في العقيبة هي أسرة كريّم، فذهب الدهر بالفتوّة منها وكاد يُنسى اسمها، ولم يبقَ فيما أعلم من رجالها إلاّ صديقنا الشيخ عبد الحميد كريم إمام جامع التوبة، وهو أبعد الناس عن النزال وعن القتال، من الذين قيل فيهم: «ليسوا

<<  <  ج: ص:  >  >>