لقد جمعوا في الباطل، في الخيال، كل صورة للقلب تصنعها الأحزان المتخيَّلة، حتى لم يبقَ شيء لمفجوع صادق مثلي. قالوا: إن الحبيبة سرقَت قلبي، صدعَت قلبي، أخذَت قلبي، سكنَت قلبي، أبكَت قلبي ... حتى لقد جعل ذلك النحويّون مجالاً لإثبات قواعدهم فقالوا في شعرهم السخيف:
يا ساكناً قلبِيَ المُعَنّى ... وما لهُ فيهِ قطُّ ثانِ
لأيِّ معنىً كسرتَ قلبي ... وما التقى فيهِ ساكنانِ
والشعراء الذين رثوا أولادهم، لقد وردوا النبع قبلي فاستقوا وملؤوا حياضهم ولم يدَعوا لي إلاّ الثمالة والعكر: ابن الرومي في رثائه ولده، والتهامي، والشاعرة التي لم يَقُل أحدٌ في وصف مصابه في ولد مثل الذي قالت في بنتها، عائشة التيمورية، أخت العالِم الباحث أحمد تيمور باشا. اقرؤوا قصيدتها فإنها -على ضعف أسلوبها- قد خرجت من القلب لتقع في القلب، وما أحسب أن امرأة استطاعت أن تصوغ عواطفها ألفاظاً وأحزانها كلماتٍ كما فعلَت عائشة (١). وابن الزيّات الوزير وما قال في ولده،
(١) في كتاب «رجال من التاريخ» فصل عن عائشة التيمورية، فيه خبرها وفيه واحدة من قصائدها التي نَظمتها في رثاء بنتها التي ماتت بعد زواجها بشهور قلائل، وهي في الثامنة عشرة. قال فيه: "وروّعت عائشةَ الصدمةُ وشدَهتها، ولم تستطع التصبّر، ونسيت كل شيء إلا ابنتها وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها، ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل قالت فيها قصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، وأثر طولُ البكاء في عينيها فلم تعد تبصر ... "، والمقالة مؤثّرة والأبيات أشد تأثيراً، فمن شاء قرأها هناك (مجاهد).