بنشة، وهي في لغتهم بمعنى «الذّروة». بنشة هذه مصيف من آنَق ما رأيت من المصايف، أجمل من لبنان بعشرين مرّة وأجمل من سويسرا بعشر مرات. وكنا في جاكرتا نكاد نشكو الحرّ، فارتجفنا فيها من البرد حتى اضطُررنا إلى الاحتماء بالسيارات.
* * *
وذهبنا مرة ثانية في رحلة أطول فرأينا في آخرها الجنّة، لست أعني جنّة الآخرة فإن دونها مصاعب وأهوالاً، وإن لم يتداركني ربي برحمته ومغفرته ما استحققت بعملي أن أريح ريحها، ولكن أعني جنّة الدنيا. وليست جنّة الدنيا الشام ولا لبنان، بل ولا سويسرا، ولكن جنّة الدنيا جاوة. جزيرة جاوة، من رآها فقد علم أني أقول حقاً، ومن لم يرَها لم يُغنِه عن مرآها البيان، وليس الخبر كالعيان.
أمضيت في هذه السفرة يومين ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعة وأحلى في عيني منظراً وأبقى في قلبي أثراً منهما. يومان قطعتُ فيهما الجزيرة (أعني جاوة) من مغربها إلى مشرقها بالقطار، من جاكرتا إلى سورابايا، في طريق ما رأيت ولا سمعت ولا أظن أني سأرى أو أسمع أن في الدنيا طريقاً أجمل منه؛ ركبنا القطار الكهربائي من محطّة جاكرتا، فنزح بنا عنها والليل ينزح عن البلد، يمشي متسلّلاً كخيوط النور التي تتسلّل من وراء الأفق الشرقي، فترفع ستار الظلام عن هذه المشاهد كما ترفع الخيوطُ ستارَ المسرح عن مناظر الرواية. والصباح فاتن دائماً، ولكنه يبدو أشدّ فتوناً حينما تراه وأنت مقبل على بلد جديد تتوقّع الكثير من سحره وجماله.