مرات تحت دواليب القطار فنروح ضحية أكلة رز مسلوق بالفلفل الأحمر ... بعد هذا كله قال لنا نادل المطعم (الجرسون) متعجباً: لماذا لم تقرعوا الجرس ليجيء لكم الطعام؟ ولما رجعنا وجدنا صاحبنا الشاطر (واذكروا أن الشاطر في اللغة هو الخبيث) يأكل وهو في مكانه، لأنه وضع أصبعه الكريمة على زر الجرس الذي لم يبصره صاحبي الطيب، فجاءه النادل بما يريد!
وكانت السخرية الثانية بنا أن في القطار طعاماً إنكليزياً مقبولاً على كل حال، ليس فيه من هذه الفلافل التي ألهبت أجوافنا وأشعلتها ناراً، أكل منها صاحبنا الشاطر، وأنا وصاحبي الطيب لم ندرِ به فأكلنا -والعياذ بالله- هذه النار الحامية.
ولمّا شبعت البطون من الطعام أحسسنا جوع النفوس إلى الجمال، فعدنا ننظر فإذا القطار الذي يحملنا قد صار في الأعالي يمشي على ذُرى الجبال، نرى من شقّ الوادي ما خلّفنا وراءنا من حقول الرز وغابات المطّاط، وهي أشجار كبار. ومن أعجب ما رأينا في القطار أنه كان يمرّ حيناً على جسر ممدود بين خطمَي جبلين عاليَين (١)، فكنا ننظر من النافذة منظراً يدور منه الرأس: ذُرى تحتها ذُرى، وسفوح تليها سفوح، وأودية لا يبلغ البصر إلى أعماقها، والطريق كله ممتلئ بالزارعين وبالأطفال العاملين. ولم نزل نصعد ونصعد حتى بلغنا الذروة، وجزنا بمنطقة «دار
(١) كالجسور التي أقامتها المملكة هنا على طريق الهَدى وعلى الطريق المدهش الذي يقفز فوق قِمم الجبال ويمشي في بطونها حتى يصل إلى الباحة وما بعدها.