للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الأولاد يشترون أكفّ الشُّكَلاطة من بيّاع هناك، وكانت الطفلة تنظر إليهم وهم يمزّقون أوراقها ويأكلونها، تنظر بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقة يعقبها خمود اليأس المرير. ثم غلبها الطمع فلكزَت جدتها بمرفقها على استحياء، حتى إذا التفتت إليها أشارت بغمزة من عينيها وحركة سريعة من يديها إلى الشُّكلاطة، فتبسّمَت الجدّة بعينيها ولكن مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع، وقلبت كفّيها إشارة العجز والفقر.

هنالك عرضَت لي فكرة حمدتُ الله عليها وأسرعت إلى تحقيقها، هي أنني اشتريت أكبر كفّ من الشُّكَلاطة، وذهبتُ به فوضعته في حِجرها هو وما كان في جيبي من مال. فنظرَت إليه نظرة المشدوه، ثم حوّلت بصرها إلى جدّتها كأنها تستنجد بها، تستشيرها: ماذا تعمل؟ فأشرق وجه العجوز إشراقة سريعة كأنها بريق الشمس يسطع لحظة من خلال الغمام، وأقبلَت عليّ تقول كلاماً طويلاً باللغة الأندونيسية لم أفهم منه إلاّ «تريما كاسي، بنجاوم عمر»، أي: أشكرك، الله يطوّل عمرك. وقامت البنت تجرّ جدتها، تهرب كما تهرب الهرّة أعطيتَها قطعة لحم، تسرع خوفاً أن تندم عليها فتعود فتنزعها منها، حتى عجزَت خطوات الجدّة عن اللحاق بها، وهي تتلفّت إليّ: هل ندمتُ فلحقت بها أستردّ ما أعطيت؟ حتى غابت عن عيني.

لقد خسرت مبلغاً لا يجاوز ما أُنفِقه أجرة نزهة في سيارة أو ساعة أقعدها في مقهى، لكني ربحت من اللذّة ما لا أجده في مئة نزهة ولا مئة مقهى. أحسست كأن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأن نار الشوق إلى أهلي

<<  <  ج: ص:  >  >>