للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنت يومئذٍ كالذي تصيبه ضربة على رأسه فيفقد شعوره، كنت أنظر ولكن لا أرى وأتحرك ولكن لا أفكر. لم أعلم كيف غسّلوه ولا كيف كفّنوه، ما دعاني أحدٌ لأرى ولا حاولت أن أرى مِن غير أن أُدعى. كنت أمشي من هنا إلى هناك ثم أعود إلى حيث كنت، لا أهدأ ولكني لا أعمل شيئاً، حتى سمعت النداء بـ «لا إله إلاّ الله»، وكانت تلك علامة سير الجنازة.

مشيت مع الناس. كان الناس يملؤون الطريق كله فلا أعرف أول الموكب من آخره، مشى الناس على أقدامهم من الصالحية إلى مقبرة الدحداح في حيّنا القديم في طرف العُقَيبة، وكانت آخرَ البلد ما بعدها إلاّ البساتين فصارت اليوم في وسطه.

من الصالحية إلى المقبرة أربعة أكيال امتلأت كلها بالناس، وكلما تقدمت قليلاً انضمّ إليها ناس جدد. يسألون: من الميت؟ فإذا قيل: الشيخ مصطفى الطنطاوي، قالوا: رحمه الله، ومشوا فيها.

ما كان من رجال السياسة ولا من أهل الرياسة، ولا من ذوي الجاه والسلطان ولا من الأكابر والأعيان، ولا من الأدباء ولا من الخطباء، ما كان إلا عالِماً ومعلّماً، ولكنها محبّة وضعها الله له في قلوب الناس. وما كنت أعلم أن له في قلوبهم هذه المحبّة حتى مات.

* * *

رجعنا من المقبرة وأنا لا أزال في دهشة المفاجأة. ثم بدأ

<<  <  ج: ص:  >  >>