متديّن. كان يأتي كل عَشيّة فينام في المحكمة يحرسها ويذهب حين يذهب الليل. جاءني مرة يطلب نقله من المحكمة، فقلت: لماذا؟ قال: يا سيدي أعفِني من ذكر السبب، إني أطلب النقل. قلت: لا بد لهذا الطلب من سبب، فإذا كنتُ أسأت إليك أنا أو أساء إليك أحدٌ بالمحكمة فخبّرني. قال: ما أساء إليّ أحد. قلت: إذن تبقى. قال: لا أستطيع.
وما زلت به أحاوره وأداوره، أفتله بالذروة والغارب كما كان يقول الأولون، حتى أخبرني أنه لا يستطيع البقاء في هذه الدار لأنها «مسكونة». ومعنى أنها «مسكونة» في اصطلاح أهل الشام أن الجنّ تسكنها. قلت: خبّرني، ما الذي رأيته؟ قال: كلما مشيت في الليل أو صعدت درجاً أو نزلت أسمع جرساً يقرع من خلفي. فضحكت وقلت: يا أبا فلان، ما هو عيب عليك، وأنت أنت بطولك وعرضك وشجاعتك المعروفة تقول هذا؟ فانصرف يرحمك الله ودع عنك هذه الأوهام.
وكانت دار المحكمة -كما عرفتم- من أكبر الدور الشامية القديمة، فيها صحن واسع يُفضي إلى صحن، ومداخل ومخارج ومصاعد وأدراج وممرات مستقيمة وملتوية. وكنت أتغدى في المحكمة لأن داري بعيدة، فقد كنت أسكن في الجبل، فإذا انصرف الموظفون بقيت وحدي، وربما اضطجعت على الأريكة بعد الغداء ساعة أو بعض ساعة، وربما بقيت حتى يؤذّن المغرب فأصلّي وأنصرف.
لبثت يوماً حتى أظلم الليل وتأخّر وصول الدركي الحارس،