وإذا شيء ما رأيت في عمري مثله. فأشرت للشرطي أن يقف إلى جانبها هي لأن الخطر منها لا منه. ومضيت في المحاكمة حتى انتهت الجلسة، وخرجَت هي وأمها وبقي هو واقفاً، فلم أمنعه لأن المحاكمة علنيّة لمن شاء من الناس أن يدخل فيقف ويستمع، حتى إذا انتهت القضايا كلها ولم يبقَ عندنا شيء وهممت بالقيام قلت له: ماذا تريد؟ قال: لا أريد شيئاً. قلت: لماذا لا تذهب إذن؟ قال: يا سيدي، إنها تربط لي هي وأمها تحت القنطرة.
وكانت المحكمة في حيّ القنوات، ومن بعدها جسر قصير يمرّ فوق النهر وينزل الماشون تحته دركات (أي درجات) ثم يصعدون من الطرف الآخر. وهو يخاف أن يخرج فتهجم عليه المرأتان تحت الجسر فتبطشا به. فضحكت في سرّي ولم أظهر له، وأمرت الشرطي أن يمشي معه حتى يكفّ أذى المرأتين عنه.
وجعلت أعجب من هذا المشهد الذي ما رأيت مثله، لأن المعروف أن النساء ضعيفات وأن الرجل هو القوي وأنهن يَحتَجْنَ إلى حمايته، فإذا أنا أرى رجلاً بطوله وعرضه وعمقه وارتفاعه وعضلاته وشنباته يفزع من امرأتين ضئيلتين!
* * *
وكانت سوريا كلما جاء موسم الحجّ اهتمّ الناس به، وكتبت صحفها عن قضية نقل الحجّاج، وبحثت الحكومة عن ماخرة (بالميم) صالحة لنقلهم وعن متعهد أمين يضمن راحتهم في السفر. وكان لقاضي دمشق الممتاز الرأي الأول في اختيار الباخرة (أو الماخرة) وانتقاء المتعهد. فلما كان الموسم الذي كنت فيه