للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاعلم أنه ما فهم هو ما يدرّسه، وإنما حفظه فهو يكرره كما حفظه لا يستطيع أن يخرج عنه.

ويظهر أن أبي كان من الصنف الأول، هذا ما سمعته من تلاميذه سماعاً لأنه -رحمه الله- ما خصّني يوماً بدرس ولا أقرأني كتاباً. يقولون: أزهد الناس في العالِم أهله وجيرانه، لأنهم يرونه في جده وهزله وغضبه ورضاه، والبعيدون عنه لا يرونه إلا في أحسن حالاته ولا يبصرون منه إلا أجمل جوانبه. وأنا أزيد: أن العالِم أزهد ما يكون في تعليم أهله وجيرانه، وربما حرص على تعليم التلاميذ وشرح الجواب للسائلين ما لا يحرص مثله على تعليم ولده وإجابته على أسئلته.

لذلك كان حظي من علم أبي دون حظوظ الآخرين، وما كنت أراه إلا طرفَي النهار، وإن كان في الدار لم يَخلُ من أصدقاء أو زوّار. ولو أن الله ألهمه أن يتفرغ لي أو أن يوليني مثل الذي كان يوليه المقرّبين من تلاميذه، لرجوت أن أنتفع به أكثر مما انتفعوا وأن يبدو أثر ذلك فيّ أكثر مما بدا فيهم (١).

وكنت من يوم وعيت وأدركت ما حولي أُصبِح فأرى أبي في


(١) وأحسب أن هذا الأمر قد ترك في نفس جدّي أثراً حمَله على أن ينهج في حياته غيرَ ذلك النهج؛ فقد كان من أكبر همه وجلّ اهتمامه أن يُفيد بعلمه أهلَ بيته، حتى صارت الحياة معه حياة في مدرسة لا تنفَد ذخائر علومها وفوائدها، ينثرها في أحضان من يعيش معه من بناته وأزواج بناته وحَفَدته وإخوته وأبناء إخوته وسواهم، فيلتقط مَن شاء من هؤلاء من هذه الذخائر ما شاء، ويستزيد مَن يشاء ممّا يشاء، فلا يردّ أحداً بغير فائدة، رحمه الله وأجزل له الثواب (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>