طولون الذي أقام في مصر دولة انفصلت (أو كادت تنفصل) عن الخلافة العباسية، بل أوشك أن يتغلّب عليها، كما تغلّب يوماً بنو بويه من شيعة الفرس والسلاجقة من أهل السنّة من الأتراك، لولا أن قيّض الله له رجلاً كان عبقرياً مثله وكان كفؤاً ونِدّاً له، هو المُوفَّق، الذي كان الخليفة بالفعل وإن كانت الخلافة لأخيه بالاسم.
ومصر (أعني القاهرة الكبرى) ليست مدينة واحدة، ولكن مدائن تعاقبت ثم اتصلت: الفسطاط أولاً، وهي مصر القديمة وفيها مسجد عمروبن العاص الذي فتح مصر بجيش يقلّ عدده عن نصف عدد طلاب كلية واحدة في إحدى الجامعات العربية الكبيرة. وكان مسجد عمروبن العاص (الذي بُني في موضع فسطاطه فسُمّيت المدينة باسمه) كان شبهَ مهمَل في تلك السنة، ثم سمعت بأن الحكومة عادت إلى العناية به وإلى عمارته، عمارة الجدران والأركان وعمارة العلم والإيمان، وولّت خطبته واحداً من الدعاة المخلصين ومن المفكّرين المسلمين هو صديقنا الشيخ محمد الغزالي.
وأنشئت بعد مدينة الفسطاط مدينة القطائع (وهي حيّ السيدة زينب الآن)، وفيها جامع ابن طولون بمنارته التي تمتاز من المنارات بأن درَجها من ظاهرها، بُنيَت على نمط منارة مسجد «سُرّ مَن رأى» التي تُسمّى المَلْويّة والتي سبق الكلام عنها، أُنشئت بعدها بنحو نصف قرن. ثم أُقيمت مدينة المعزّ العبيدي الذي يُدعى الفاطمي، والتي فيها الأزهر وفيها مسجد الحسين. ثم مشى البناء إلى العتبة الخضراء والأزبكية على عهد محمد علي،