وقفة التذكّر والحنين، ثم تمضي لطيّتك وتنساها بعد خطوات لما صدّقت. فكيف هانت عليّ هذا الهوان؟
(إلى أن قلت): وأنا رجل كلما تقدّمَت به السنّ ازداد إيغالاً في عزلته وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن من قريب إذ تجوز بحر الظلمات (أي المحيط الأطلسي، وكان ذلك أيام الحرب)، حتى غدوت وقد رثّ حبلي وتصرّم إلاّ خيوطاً: طائفة من الأصحاب لا يبلغون عدد أصابع اليدَين، وأماكن هي أقلّ من ذلك؛ لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبقَ لي في لياليّ الطِّوال مؤنسٌ أو سمير إلاّ هذه الكتب وهذا الماضي، أزداد كل يوم تعلّقاً به وحنيناً إليه، أمّا المستقبل فأخافه ولا أجرؤ على التفكير فيه.
لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفتُه وعانقته وشممته، لعلّي أجد في ثيابه عبَقاً من أزاهير الماضي الحلو الذي سَرَبْنا فيه جميعاً يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذّ، فجزنا خلال رياضه وأوغلنا في دروبه المُعشِبة ومسالكه التي ابتسم على جانبَيها الأقحوان وضحكت الشقائق (أي زهر شقائق النعمان)، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرف على الكهولة، وهدّته مطالب العيش فأخذَت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي عاجلها الخريف ببرده وعواصفه ... أحاول أن أرى من ورائه طلعة «ذلك» الصبي المرح دائماً، الضاحك اللاهي الذي كنته يوماً، والذي أحببتُه وقاسمته مرحه ولهوه. فإذا لم أرَها رجعت أجرّ رِجْلَي خائبٍ فُجع