ثم كرّت الأيام فوضعوا مكان هذه السرُج مصابيح كهربائية صغيرة، لا تُوقَد من الشجرة المباركة بل من التيار الكهربائي الخفيّ الذي لا يُرى، ولا يمضي في إشعالها ما بين المغرب والعشاء بل نشعلها كلها بلمسة زرّ في الجدار فتضيء في مثل لمح البصر.
أليس هذا هو مثال حياتنا في تلك الأيام وحياتنا الآن؟ ألسنا الآن في عصر السرعة؟ لقد ربحنا الوقت ولكن خسرنا المشاعر والأحاسيس.
لقد أمضيت على الطريق من جدة إلى مكة لمّا جئتها أول مرة من ثلاث وخمسين سنة (سنة ١٣٥٣) اثنتي عشرة ساعة في السيارة، حملنا فيها المَشاقّ وقاسينا المتاعب، ولكنها أثارت في النفس مشاعر وأبقت فيها ذكريات لا أزال أتحدّث عنها إلى الآن. ونصل الآن من جدة إلى مكة في أقلّ من أربعين دقيقة، ونصل في مثلها بالطيارة من المدينة إلى جدة، ولكن لا تثور في النفس مشاعر ولا يبقى بهذه الرحلة ذكريات.
فنحن نركض دائماً كأننا في سباق، ولا ندري إلامَ نتسابق. لا نقف ولا نفتر ولا نبطئ، ركض من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، لا نثبت في مكان. مَن كان في مكة ذهب في عطلة الأسبوع إلى جدة، ومن كان في جدة جاء مكة، كل يطلب التبديل. فإذا قدم رمضان تنبّه الرَّكْبُ وتلفّت مَن فيه إلى الوراء ينظرون من أين بدأ المسير، وإلى الأمام يرون إلى أين المصير. فرمضان محطة على طريق العمر ووقفة تأمّل وتبصّر.