للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الصور التي اختزنتها من الصغر واحتفظت بها وأنا أحملها في زحمة الحياة، ثم فُقدت من حولي وكادت تضيع من ذهني: صورة البوّابات.

هل تعرفون ما البوابات؟ لم يكن الأمن وأنا صغير قبل سبعين سنة أو أكثر من سبعين، لم يكن الأمن مستتباً أواخر عهد العثمانيين، وكانت الحكومة المحلّية ضعيفة والمركزية في إسطنبول بعيدة. وكانت قد عادت دمشق في كثير من أحوالها (كما عادت مدن من أمثالها) إلى مثل عهد الجاهلية الأولى، فكان القوي يعدو على الضعيف، وكان في كل حيّ قبضاياته وزكرتيّته، وكان يسطو بعض الأحياء على بعض ويغزو بعضُها بعضاً. فاتّخذ أهل كل حيّ باباً كبيراً، بوّابة تُغلَق من بعد العشاء ولا تُفتَح إلاّ بعد الفجر، يقوم وراءها الحارس الليلي (الخفير) ولا يفتح الباب إلاّ لمن يعرفه ويثق به.

وأذكر وأنا صغير جداً في نحو الخامسة أن أمي أخذها الطلق، فبعثوا بجارة لنا وأنا معها لتأتي بالقابلة، فمررنا بالبوابة، فصاح بنا الحارس من ورائها يقول: مَن؟ قلنا: مُطْلِقة (أي امرأة أخذها الطلق) قال: قفوا في اليمين حتى أراكم. ونظر من طاقة الباب وأدرك أنه لا يُخشى خطر منا ففتح لنا الباب.

فإذا كان شهر رمضان فُتحت البوابات الليل كله وزادت الأنوار في الحارات، وكانت تُضاء بالكهرباء، جاء بها وبالترام الوالي التركي ناظم باشا قُبَيل مولدي. وناظم باشا هو باني حيّ المهاجرين، وفي كتابي «دمشق» قصة إنشاء هذا الحي وفي كتابي

<<  <  ج: ص:  >  >>