وعرض عليّ الأستاذ الزيات أن يأخذني إلى قهوة الفيشاوي. وأنا لست من أحلاس المقاهي الذين ينفقون من أعمارهم في ارتيادها الساعات الطوال، يتنفّسون فيها هواء فاسداً يؤذي الصدر ويسمعون من قرع حجارة النرد (الطاولة) وصياح النُّدل (الجارسونات) ضجّة تُصِمّ الآذان، فهممت بالاعتذار فقال: إنها ليست كما تعرف من المقاهي وليس فيها إلاّ الشاي الأخضر الذي تحبّه، ويرتادها في مثل هذه الليالي أعلام الأدب وأرباب الفنّ يذكرون بها مصر التي كانت قبل خمسين سنة.
فذهبتُ معه، فإذا هي كما قال: قهوة من مقاهي الأحياء القديمة في مطلع هذا القرن، كأن التاريخ مرّ بها ونسيها ها هنا، فلم تمشِ مع مصر في طريق الحضارة المستورَدة من حيث مشَت بل بقيَت في مكانها. وهذا ما يرغّب الناس فيها ويجعلهم يتعلّقون بها. والإنسان مفطور على حب الجديد، ولكنه يحنّ إلى القديم.
وأنا أقيس نشاط الشعب في كل بلد أنزله بأمرين: مشي الناس في الشوارع وقعودهم في المقاهي. والناس في ألمانيا مثلاً لا يمشون إلاّ مسرعين، وما رأيت في بلد فيها (وقد زرت أكثر بلادها) مَن يمضي ساعة في المقهى أو ساعتين كما يفعل الناس في غيرها من البلاد.
* * *
ومرّ بي رمضان وأنا بعيد، دخل عليّ أوله وأنا في كراتشي في باكستان وآخره وأنا في جاكرتا في أندونيسيا، وترك في ذهني صوراً لم تذهب بها الأيام من سنة ١٣٧٣هـ إلى الآن، وإن ذهبت