كلما ازددنا هبوطاً ازددنا عنهما بعداً، حتى إذا بلغنا السفح وصرنا على الأرض فإذا نحن في حيّ آخر من أحياء المدينة. وكذلك يصنع انحراف خطوة عن الطريق، إنه يبدّل وجهتك ويصرفك عن غايتك ويبلغ بك ما لا تحب.
ولم ندرِ من أين نسير، وكانا حديثَي عهد بالمدينة، قدما إليها من بروكسل وكانا من قبلها في جنيف، ولسان كليهما فرنسي، وهذا لسان ألماني لم يكونا قد تعلّما منه يومئذ إلاّ القليل، وقلت للبنت: كلّميهم بالفرنسية (وكانت تتقنها) واسأليهم عن المسجد. فوجدنا أكثرهم لا يعرف الفرنسية، والقليل الذي عرفها لم يكن يعرف المسجد. فجعلنا نسير على غير هدى حتى تعبنا من السير، فوجدنا كراسي مصفوفة فقعدنا عليها، وكان إلى جنبنا رجل كبير السنّ وجهه يدل على طيب نفسه، فسألناه ففهم عنا، ثم أشار إلينا أن ننتظره حتى يعود، ثم ذهب إلى هاتف قريب فطلب لنا سيارة (تاكسي) وأفهم السائق مقصدنا، فشكرناه بألسنتنا بمقدار ما استطعنا التعبير عن شكر قلوبنا.
وكنت قد سمعت بأن الألمان غلاظ القلوب لا يدلّون تائهاً ولا يُجيبون سائلاً، فكان الذي وجدته غير هذا، بل لقد وجدت منهم لطفاً وأدباً وظرفاً واهتماماً بالغريب. ضللت الطريق مرة بعد أن أقمت في البلدة مدة، فسألت رجلاً، فدلّني فما فهمت عنه، فبدّل وجهته ومشى معي حتى أوصلني إلى أول الطريق الذي أقصده. ولمّا جئت أشكره نسيت كلمة الشكر (دانكْهشون) فقلت له: دون كيشوت! فبدت على وجهه علائم التردّد بين الطرب لنكتتي والعجب من كلامي والغضب مني، فأدركت ذلك فقلت