للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرأيت ياأخي كوب الماء العكر لا تستطيع أن تسيغه على عكره ولا تملك أن تعيده إلى صفائه، فتتركه للزمان يُنزِل إلى قرارته ما علق به من أدران فيبدو صافياً، وما صفا ولكن رسب فيه العَكَر. كذلك يستقرّ الحزن في أعماق النفس، يستره النسيان حتى لتحسبه ما كان. ولقد طالما تسلّيت، ولكن ما سلوت ولا نسيت، وهل ينسى امرؤ حياتَه؟

لقد سردتَ ياأخي أسماء ما لها في نفسك ظلال ولا لها في أعماقك جذور وما مسّت حياتك إلاّ مسّاً رفيقاً، أما أنا فأحسّ بها دائماً غائصة جذورها في كياني ممتدّة ظلالها على حياتي. حتى إنك ياسيدي نسيت الطريق. وحقّ لك أن تنسى، فقد كانت زيارة لك عابرة مرّ عليها الآن أكثر من خمسين سنة، فسلكت شارع بغداد فوصلت دُمّر والهامَة! فحقّ لي أن أقول لك مقالة ابن أبيربيعة: «عَمْرُك الله، كيفَ يلتقيانِ؟»؛ شارع بغداد يمضي مشرّقاً ودمّر والهامة في الغرب، وشتّانَ بينَ مشرّقٍ ومُغَرّبِ.

لقد هزّت مقالتك شجوني. فيا شوق نفسي إلى دمشق ومغانيها، وغوطتها وواديها، وشاذروانها وميزانها!

وهلْ لي إلى تلكَ الديارِ ونظرةٍ ... إلى بردى قبل المماتِ سَبيلُ؟

بردى الذي رآه حسّان مرات معدودات فأحبّه وذكره في شعره، فكيف بي أنا؟ لقد قال في مدح أصحابه من آل غسان (ولم أقُل من بني غسان، لأن «غسّان» ليس إنساناً بل نبع ماء في جبل الدروز، نزلوا عليه فنُسبوا إليه (١)) قال حسان:


(١) قال شاعرهم: الأزدُ نسبتُنا والماءُ غسّانُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>