ذكّرتَني ياسيدي دمشق، فهل لي من عودة إليها؟ وإن عُدت إليها فهل أعرفها؟ لقد تبدّل بعدي كل شيء: المسالك والطرق وحال البلاد ووجوه الناس. وهل بقي فيها أحد من ناسي؟ لقد صرت إذا لقيت هنا رجلاً من دمشق جاء يسلّم عليّ أسأله: مَن أبوك؟ وربما سألته: مَن جدّك؟ لأن الطبقة التي أنا منها لم يكَد يبقى من أفرادها إلاّ قليل.
فإن رأيتني عدت -يا سيدي أبا الخير- ووجدتُ الأماكن التي طرّزتَ مقالتك بأسمائها وعطرتها بأريج العطر من غوطتها وجمال الينابيع من واديها، فهل أجد الرجال الذين تحدّثت عنهم فيها؟ هل أجد الإخوان الذين مرّوا في حياتي مرور النسمة الناعشة في اليوم القائظ، مرور البرق المنير في الليلة الداجية، مرور الحلم الهنيء الذي كان ملء يديّ وعينَيّ وكنت أعيش فيه، فصحوت وما في يدي منه شيء؟
لقد ذهبوا جميعاً فمَن يُعيدهم إليّ؟ مَن يُرجع لي أيام شبابي التي تفضّلتَ فأثرت في نفسي ذكراها؟
لقد جعلتني أبكي مع الصديق الشاعر خير الدين الزركلي الذي قال غداة ميسلون، غداة ضاع الاستقلال وماتت الدولة العربية في الشام وكانت الفجيعة، ورأينا وجه الاستعمار البغيض أول مرة حين رأينا جنود الغزاة الفرنسيين تصكّ بنعالها أرض العرب المسلمين، وما عرفنا من قبلُ مستعمراً أجنبياً، أمّا الذين يسمّون الحكم التركي استعماراً فهؤلاء قوم لا أخلاق لهم ولا يعبأ الله بهم. قال خير الدين رحمه الله: