في محطات النفط، حين أقاموا فيها بيوتاً مثل بيوتهم في بلادهم فجاءت تشبهها أو تذكّر بها. لذلك كان من معنى كلمة «هوم» عندهم أنها السكن، وقد أخذوا المعنى من العربية، فليس «السّكَن» الدار وحدها التي يسكن الجسم فيها ويستريح بل ما تسكن النفس إليه وتطمئن به، لذلك جعل الله لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها.
وكنا قد وصلنا إلى آخر البلد (بروكسل) فقلّت العمارات وكثرت الحدائق، فقعدت على كرسي من كراسيها وقلت: أتمدّد فأسترخي فلم يبقَ لي صبر على النوم، وأنا مسافر منذ الصباح، قطعتُ الطريق من ألمانيا إلى بروكسل ثم طفنا شوارع بروكسل كلها. ويبدو أن أصواتنا علت بالحديث ونحن لا نشعر، وكنا أمام دار واطية لاصقة بالأرض لها نافذة مفتوحة من الحرّ، فبرز منها رجل قد أيقظناه من نومه فأقبل يلومنا، والأستاذ يحاول الاعتذار إليه وتهوين الأمر عليه، وإذا به يقول له: مسيو زابيان؟ وإذا هو يعرفه، وإذا هو يفتح لنا بابه ويخبرنا أن عنده غرفة للإجارة يؤجّرها، وأنه الآن وحده والدار خالية إلاّ منه لأن زوجته في سفر.
وكان يظهر عليه أنه كهل طيّب القلب، طلق الوجه حلو اللسان، فدخلنا إلى شبه حديقة تفضي إلى دار صغيرة فتح لنا بابها وأضاءها، فوجدنا غرفة متسعة من البناء القديم عالية السقف، فيها أثاث نظيف ولكنه من الطراز العتيق، ومعها حمّام كبير، وفيها جرس إذا احتجنا إلى شيء قرعناه. فكان ذلك أكثر مما نطلب.