للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إني من ستين سنة أعلّم وأكتب وأخطب وأحدّث، اللهمّ لا أدّعي أن ذلك كله كان خالصاً لوجهك. وليته كان، ولكني بشر أطلب ما يطلبه البشر من المال الحلال، ويسرّني المديح، وتستهويني متع الدنيا، فهل يضيع لذلك جهدي كله؟ هل أخرج فارغ اليدين لم أنَل شيئاً من الثواب؟ إني لأمتحن نفسي أسائلها كل يوم: هل كانت الدنيا وحدها همّي؟ لو عُرض عليّ أضعاف ما أخذه الآن على مقالاتي وكتبي وأحاديثي على أن أجعلها كتباً ومقالات وأحاديث في الدعوة إلى الكفر، هل كنت أرضى؟ فليست إذن كلها للدنيا، كما أنها ليست مبرَّأة من مطالب الدنيا.

قلت لكم إني أفكّر في الموت وأعرف أني على عتباته. إنه يمكن أن أعيش عشرين سنة أخرى كما عاش بعض مشايخي وكما يعيش اليوم ناس من معارفي، ولكن هل ينجيني ذلك من الموت؟ فما الذي أعددته للقاء ربي؟ اللهمّ إني ما أعددت إلاّ توحيداً خالصاً خالياً من الشرك، وأني ما عبدت غيرك ولا وجّهت شيئاً مما يُعَدّ عبادة إلى سواك، وأنني أرجو مغفرتك وأخشى عواقب ذنبي، فاللهمّ ارحمني واغفر لي.

سيقول قائلون: هذه لم تعُد رحلة فيها خبر ما صنعت وصورة عمّا رأيت وما سمعت، ولكنها شتيت من الأفكار والآراء. والجواب قدّمته في أول حلقة من هذه الذكريات، قلت إني لست كالجندي المسافر في مهمّة عسكرية لا يهتمّ إلاّ بها ولا ينصرف إلاّ إليها، بل كالسائح في الأرض؛ يبصر المشهد فيقف عليه ليراه، ويسمع المحاضرة فيتريّث مكانه ليستكمل سماعها، ويستطيب البلد فيمكث فيه أياماً. فمَن قبلني على هذا من القراء فأهلاً به

<<  <  ج: ص:  >  >>