للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أراها متغيرة في عيني؟

وتوجهت بي السيارة إلى البلد تمشي خمسة وعشرين كيلاً في بستان واحد، هو ما بقي من الغوطة الشرقية، تتماسك أشجاره تَماسُك أيدي الأصدقاء ساعة اللقاء وتتعانق فروعها تَعانُق العشّاق بعد طول الفراق، حتى بلغنا دمشق.

ولكني لم أشعر بأنها دمشق، وحسبت الطيارة ضلت الطريق إليها فهبطت غيرها. شوارع عراض، وعمارات عالية، وساحات وجسور (يسمّيها إخواننا المصريون باسمها التركي: الكباري). ولكن ما لي ولها؟ هذه مدينة جديدة طالما رأيت مثلها حيثما مشيت في مناكب الأرض (ولقد مشيت إلى أقصى الشرق من أندونيسيا وأبعد الشمال من هولندا). إنها متشابهة كالنسخة المطبوعة من الكتاب وأنا أريد نسختي المخطوطة، نسختي المفردة على ما فيها من عيوب. هل يتخلى أب عن ابنه لعيوبه ويأخذ ابن غيره المنزَّه عن العيوب؟

أريد دمشق مَربَع أسرتي، ومَرتَع صباي، ومَغنى فتوّتي. فأين هي دمشق التي تشمّمتُ ريّاها، ونشقت صَباها، ونشأت في حماها؟

أهذي هي دمشق؟ فما لها تغيرت معالمها وتبدّلت أزياؤها، وإن ازداد عمرانها وعلا بنيانها؟ ما للوجوه غدت غير الوجوه؟ كنت إن قابلت في الطريق عشرة عرفت منهم واحداً أو اثنين وعرفني أربعة أو خمسة، فما لي اليوم أبصر مئة فلا أكاد أعرف من المئة واحداً ولا يعرفني ثلاثة؟

<<  <  ج: ص:  >  >>