لاتحتاج إلاّ إلى عود كبريت أو إلى مصباح كشّاف يُظهِرها لأعيننا فنرى أنه ليس فيها ما نخشاه، ولكن الظلام الذي كان يلفّها وخيالَنا الذي كان ينطلق وسط هذا الظلام هو الذي يملأ نفوسنا بالمخاوف والأوهام.
ومن ذلك كتاب صدر في الشام في هذه الأيام يعرض لواحد من هذه الموضوعات، لرجل كان من رجال القضاء، انقطع إلى النيابة العامة فبلغ أعلى مرتبة فيها، فكان يوماً النائبَ العامّ لدى محكمة النقض ثم لدى المحكمة الدستورية العليا، ثم صار الأمين العامّ لمجلس الوزراء ثم لديوان رياسة الجمهورية. وما عرفناه من قبلُ من أهل التصنيف والتأليف ولا من أرباب الأقلام وأصحاب البيان، ولا أعرف عنه أنه من العلماء أو من أرباب الفكر، كما أنه لم تُعرف عنه نقيصة ظاهرة ولا عيب معروف، ولا ساءت قالةُ الناس في خُلقه ولا في أمانته. فهو -كما يقول الفقهاء- رجل مستور، أي أنه كالنسخة الجيدة من الكتاب المطبوع، ما فيها عيب يُعاب، ولا تنفرد بمزيّة عن أمثالها كما تنفرد النسخة المخطوطة النادرة التي يُغليها فَقد أمثالها أو قلّتها، لذلك تُشترى بالثمن الغالي ولو كان فيها خرم أو فيها نقص أو أصاب جوانبَ صفحاتها الماءُ.
فكيف إذن بلغ هذا المنصب العالي وهو موظف عادي كسائر الموظفين؟ وكيف تبوّأ سامي المراتب وعالي الدرجات؟ ذلك لأنه جاء في عهد الانتداب أيام الفرنسيين، وهو نصراني، والفرنسيون لا يُعطون مسلماً شيئاً إن وجدوا مَن يصلح له ممن هو على دينهم وملّتهم. ثم إذا همسنا بشكوى أو نطقنا بها قالوا: إنكم تفرّقون بين أبناء الوطن الواحد وتبعثونها عصبية دينية!