للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سجين وإن لم يُحكَم عليه بالسجن، لا أكاد ألقى أحداً لِما ركّب الله في فطرتي التي لا أملك تغييرها ولا تبديلها من حبّ العزلة والابتعاد عن مجامع الناس، وإن دنوتُ منهم ولقيتهم فإنما ألقاهم وبيني وبينهم صحيفة الجريدة أو لاقط الإذاعة! ولطالما خطبت الخطب ترجّ البلد وتكون حديث الناس ويكون لها أكبر الأثر، ثم أذهب إلى بيتي فأغلق عليّ بابي وأنفرد بنفسي.

وأنا هنا من نحو ربع قرن، ما رأيت والله من أحد ما يسوء، ما لمست إلاّ محبّة صادقة ووداً خالصاً، ولكن على البعد؛ فأنا لا ألقى أحداً، لا أزور ولا أكاد أُزار، ألِفتُ الوحدة حتى لم أعُد أطيق الفرار منها وضقت بها حتى لم أعُد أطيقها، فأنا (ولا مؤاخذة على هذا المثال فإنما أتكلّم عن نفسي) أنا كحمار السانية (١) التي يسمّونها في مصر «الساقية»، يدور فيها مغمض العينين، فإذا أُطلِق منها وفُكّ سراحه بقي يدور كما تعوّد الدوران. ولطالما لمست هذا الحبّ الخالص: أشاعوا من بضع سنين (كما أشاعوا السنة الماضية) أنني متّ، فلمست من الناس حزناً عليّ لا أستحقّه، جاءني مندوبون من الصحف وسط الليل يسألون عني وكتب كاتبون فضلاء يرثونني، وهذا من كرم هذا الشعب الذي لا يزال على الفطرة النقية، وأنا أسأل الله أن يسجّل في صحيفتي ما دعا لي به الآلاف المؤلَّفة من الناس حين سمعوا الخبر فقالوا: رحمه الله.

فما الذي أريده الآن إلاّ رحمة الله؟ ما عُدت أريد من الدنيا


(١) ولذلك جاء في المثل: «سير السّواني سفر لا ينقطع».

<<  <  ج: ص:  >  >>