ومنهم رجل نسيت اسمه كبير السنّ، أذكر هيئته كأني أراه الآن أمامي لا أعرف ما دينه، ولكنه لم يكن مسلماً. رسخ في ذاكرتي قوله الذي لم يكن يفتأ يقوله لأبي، وهو أن الشكّ يكاد يقتله وأنه يريد أن يعتقد عقيدة يطمئنّ إليها، حقاً كانت أم كانت باطلاً، ليخلص بها من هذا الشك الذي يمزقه ويكاد يسحقه، فمَن استطاع أن يوصله إليها أعطاه نصف مرتّبه طول حياته! فكان الأستاذ الكواكبي وأبي وغيرهما يكلمانه ويطيلان الكلام فلا يصنعون معه شيئاً، لأن ما استقرّ في نفسه من الشُّبَه يدفعه لأن ينقض هذه الأدلّة العقلية التي يأتونه بها بشبهات جدَلية، فكان ذلك مما جعلني (وأنا الصغير) أحمد الله على أن لي عقيدة أعتقدها أسكن إليها وأطمئن بها، فما في الدنيا أقتل للعقل وأذهب للسعادة من أمثال هذه الشكوك.
وكان في ديوان المحكمة الذي كان أبي رئيسَه جماعة من المساعدين (أي من الكُتّاب)، صاروا كلهم فيما بعد من أكابر القضاة ثم مضوا كلهم حيث يمضي كل حي. منهم الأستاذ محمد علي الطيبي، وكان مساعد أبي وقد ولي رياسة الديوان بعده، ثم صار الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في دمشق، وهي مرتبة قضائية عالية. وكان هادئ الطبع ساكن الجوارح، ما رأيته يوماً يغضب ولا يسخط، وله فضل عليّ لست أدري أذَكرتُه في حلقة ماضية أم لم أذكره، فأنا أكتب الحلقة ولا أعرف ما الذي قبلها ويختلط عليّ ما هو مستقرّ في ذاكرتي بما هو مُودَع في مقالاتي.
ذلك أنه كان السبب في ردّي إلى الدراسة بعد أن تركتها وحاولت ما لم أُخلَق له من الاشتغال بالتجارة، فرجعت إلى