الذي يخطو بطيئاً وعينه في الأرض، أو دجلة أو الفرات حين يمشيان كما يمشي النيل؟ هل تقيسونها ببردى وهو يجري -على صغره وضيقه وقلّة مائه- في الوادي متوثّباً يعلوه الزبَد، تتدافع مياهه تدافُع صبية يزدحمون على باب الملعب، تتكسر أمواجه في شعاع الشمس فيكون لها بريق أيّ بريق؟
لو عاش دوق وندسور مع الفلاّح يشاركه حياته، ورأى القرية كلها تُفيق مع العصفور الذي يقفز على الأغصان والديك الذي يصيح على السياج، ومع الشمس التي تبسم للدنيا وهي تُلقي عليها تحية الصباح، لَعرف لذّة العيش ونأى عنه الضيق والملل. فيا أيها القراء، إن العمل نعمة، ولا يدفع عن الإنسان همَّ الوَحدة ولا ينسيه أحزان الدهر ولا يجعله يعرف قيمة العطلة أو العيد إلاّ العمل. وهذا كلام مجرّب عرف ثقل البطالة وملل الكسل، فاسألوا مجرّباً فلا يُنبئك مثل خبير.
وأنا هنا -من أربع وعشرين سنة- تشابهت أيامي وتماثلت ليالي، فلا أستطيع أن أحدّد تاريخ حادثة مما حدث لي. ما عندي عمل رسمي، وإن كان عليّ ما هو أثقل من العمل الرسمي، هذه الذكريات مثلاً لا يعلم أحدٌ ماذا أقاسي منها، لأني مثل مسافر سلك طريقاً في البرّ ما فيه معالم ولا له حدود، فلما وصل إلى بلده واستقرّ فيها، ومرّ عليه الزمان فنسي طريقه إليها، قيل له: ارجع فحدّد معالم الطريق الذي مشيت فيه. وكيف؟ وما للطريق أثر ولا مع الرجل مصوَّر، وليس له رفيق يذكّره بما نسي.