أربع ساعات أو خمساً كل يوم سيسخرون من هذا الكلام، لأنهم ينظرون إلى الغنيّ الذي يعيش من ريع أملاكه لا يكلَّف عملاً فيحسبون أنه في نعيم ويتمنون لأنفسهم مثل حياته. ولو علموا ما في البطالة والفراغ لحمدوا الله على نعمة العمل.
هذا ملك بريطانيا الأسبق، الملك إدوارد دوق وندسور، الذي باع تاج المُلك بما توهّمه من نعيم الحب وترك العرش من أجل أرملة نَصَف، أي أنها على الحدود عند آخر الشباب («روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية) وأول مراحل العجز، ولم يسمع قول الشاعر:
فإنْ أتَوكَ وقالوا إنها نَصَفٌ ... فإنّ أحسنَ نِصفَيها الذي ذهبا
إنها كالروض يجفّ وينشف ويذهب عطره ويتساقط زهره، فلا يبقى منه إلاّ حطب به شوك.
إن دوق وندسور هذا كان يملك المال والجاه والحب، وهو يتنقل في البلدان ينزل في أعظم الفنادق ويأكل أطيب الطعام ويركب أفخم السيارات، فهل تظنون أنه كان مستريحاً. لقد قرأت طرفاً من مذكّراته التي نشرها في حياته، فرأيته يشكو من ملل البطالة أضعاف ما يشكو العامل من مشقّة العمل. إنه يسهر الليل ويقوم في الضحوة الكبرى، فيُفطر حين يعود الفلاّح إلى بيته للغداء، يأكل لا شهوةً بل أداءً للواجب على حين يأكل الفلاح أكل المستمتع الهانئ الجوعان، وينتهي الطعام فلا يدري الدوق ماذا يعمل، إنه لا يرقب شيئاً ولا يذكر شيئاً لأن حياته كالنهر الهادئ.
أرأيتم النيل حين يمشي -على عِظَمه وكبره- كالشيخ العاجز