المحكمة درس قضاياه ومَن حملها إلى بيته يدرسها فيه، وإن كان الحقّ أن القضايا لا يجوز أن تخرج أوراقها من المحكمة أبداً.
قلت إني أدرس القضايا، قد تعوّدت عليها فلم تعُد تهولني بضخامة حجمها ولا بكثرة ورقها، لأني تعلمت لمّا طال عليّ العمل في المحكمة كيف أدرسها ومن أين أبدأ فيها، وما يجب أن أقرأه من أوراقها وما لا حاجة لقراءته منها.
وكنت أنظر بمنظارين: منظار العدل أولاً، والقانون ثانياً. فإن كان حكم القاضي الذي رُفع إلى محكمتنا لننظر فيه عادلاً وقانونياً صدّقته، أي أبرمته، وإن كان قانونياً غيرَ عادل حاولت أن أجد فيه ثغرة أدخل منها إلى نقضه، ولو كانت ضيّقة. وإن كان عادلاً مخالفاً لحرفية القانون وكان فيه ثغرات سددته، حفاظاً على العدل لا ممالأة للقاضي.
وكنت أُعِدّ مشروع القرار ثم أعرضه على الأخوين، لأن كل غرفة في محكمة النقض تتألف من ثلاثة مستشارين، فإن وافقا أمضياه وإلاّ اجتمعنا للمذاكرة فيه. وإذا نقضنا الحكم وأصرّ القاضي عليه عُرض على الجمعية العمومية لمحكمة النقض، فإن أيّدَت ما ذهبنا إليه في الغرفة الشرعية التزم القاضي بما تقرره، وكانت له قوة وإن لم تبلغ قوة القانون.
وكنت في كثير من الحالات التي نختلف فيها على مسالة فقهية أقول للرئيس: اسمح لي أن أسأل المفتي (وكان المفتي هو شيخنا أبا اليسر عابدين رحمه الله)، فكان الرئيس يتردد أولاً، ثم رضي وصار من الأمور المعتادة أن نسأل المفتي.