وفي الشام أربعة مفتين للمذاهب الأربعة، أكبرهم المفتي الحنفي الذي يُدعى مفتي الجمهورية، وقد عرفت أربعة: أولهم الشيخ أبو الخير عابدين والد الشيخ أبي اليسر، وكان والدي أمين الفتوى عنده، وهو الذي نشر «رسائل ابن عابدين» المشهورة التي أُعيدَ طبعها الآن ووُجدت في الأسواق بعد أن كانت نادرة يكاد يتعذّر وجودها، وكل رسالة منها تصلح أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة.
والثاني الشيخ عطا الكَسْم، والد رئيس الوزراء في سوريا الآن، ولمّا توُفّي أبي وذهب تلاميذه (الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت والشيخ عبد الرزاق الحفّار ومن كان معهما) يقرؤون عليه (على الشيخ عطا الكسم) ذهبت معهم، وأنا في السنّ والعلم بمنزلة أولادهم. وكان فقيهاً على ما كانت تدلّ عليه كلمة الفقيه في تلك الأيام، وهو الذي يعرف أحكام المذهب المُفتى بها، ومن غير بحث في أدلّتها، أو نظر في قوة هذه الأدلة فهو القاضي أو المحامي الذي يحفظ نصوص القانون، وإن لم يعلم مستمدّها ولا معتمدها.
والثالث الشيخ محمد شكري الأسطواني، وهو مثلهما لا يقلّ عنها. والرابع شيخنا الشيخ أبو اليسر، وهو صورة كاملة للفقيه في عُرف الناس في تلك الأيام، أظنّ أنه قرأ حاشية ابن عابدين وأقرأها عشرات المرات، عشرات حقيقة لا مبالغة. وكان حين أسأله بالهاتف أمام المستشارين أثناء انعقاد الجلسة يجيب فوراً، أو يستمهل قليلاً ثم يأتينا بالجواب ومكانِه من الحاشية ومن غيرها من كتب الفقه. ولم أعرف فيمن عرفت من فقهاء المذهب