للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكريات أستطيع أن أتحدث عنها اليوم وقد مرّ عليها ثلاث وخمسون سنة. فخبّروني: ما الذي يستبقيه المسافر في الطيارة حين يقطع هذه المسافة كلها في ساعتين؟ ما الذي يستبقيه من ذكريات سفره؟ وما الذي يحدّث به عنها بعد عشر سنين؟ لقد ربحنا بهذه الحضارة الوقت ولكن خسرنا العواطف والذكريات.

بل أين مكة التي نُقشت صورتها على صفحة قلبي نقشاً لا يزول؟ كانت تعيش كلها ما بين المعابدة والبيبان، وكانت تتكدس بيوتها من حول الحرم، تأوي إليه كما يأوي الطفل الصغير إلى حِجر أمه لا تستطيع أن تبتعد عنه.

إن مكة الآن أجمل وأكمل وأبدع وأوسع؛ أوسع بلا شك وأبدع، ولكن الإنسان يحبّ ما هو له. هل تبادل بولدك فتُعطيه وتأخذ أجمل طفل في الدنيا؟ فالماضي لي، صار ملكي، صار قطعة من ذكرياتي، لذلك أحتفظ بصورته في نفسي.

* * *

أما زيارتي مكة سنة ١٣٥٣هـ فقد عرفتم في هذه الذكريات أطرافاً من حديثها كنت أودعتها كتابي «من نفحات الحرم». والزيارة التي تليها كانت في حِجّتي سنة ١٣٧٣هـ التي صحبتُ فيها وفد المؤتمر الإسلامي في القدس. وهو المؤتمر الذي لم أحضر غيره، والذي جمع ممثّلين عن أقطار المسلمين كلها، والذي انتخب لجاناً ثلاثة (١) جعلوني رئيس إحداها، وهي «لجنة


(١) لو تأخر المعدود عن لفظ العدد لوجبت المخالفة (أي تذكير لفظ العدد مع المعدود المؤنَّث، والعكس) فنقول: "ثلاث لجان". أما =

<<  <  ج: ص:  >  >>