للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما بقي إلاّ صورة لها فارغة منها. فما فائدة كتابة الذكريات؟

لقد كنا نعيش في وادٍ جميل فيه نبعٌ صافٍ بارد، وفيه أرض خصبة تُنبِت من كل الثمرات، وعندنا قطيع من الغنم نأكل من لحمه ونلبس من صوفه، يحبسنا الجَبَلان عن الناس فلا ندري بهم ولا يدرون بنا ولا نحتاج منهم إلى أحد. فجاء يوماً زلزالٌ أزاح جانباً من الجبل، فانكشفنا للناس فدخلوا علينا.

وكان هذا الزلزال هو الحرب الأولى، حرب ١٩١٤، وقد أدركت قيامها. أخرجَتنا الحرب من عزلتنا وأدخلَت الغرباء علينا، فجاؤوا ومعهم ما لا عهد لنا به من أساليب الرفاهية وثمرات الحضارة، ومعهم أيضاً أوضارها وأمراضها، فعرفنا ما لم نكن نعرف فاتسعت عقولنا، ولكنا رأينا من الفساد ما لم نكن نألف ففسدت أخلاقنا ورقّ ديننا.

كانت حياتنا كالبحيرة الساكنة، إن ألقيتَ فيها حصاة تنداح فيها الدوائر كما قال ابن الرومي. فإذا بصخرة ضخمة تُرمى فيها، فتقلب عاليها سافلها وتعكّر ماءها وتطمّ حدودها.

لا أستطيع أن أحصر ما صنعَت بنا هذه الحرب. إنها بدّلت حياتنا تبديلاً لا يدركه إلاّ النفر القليل من الشيوخ الذين رأوا مثل ما رأينا، الذين عاشوا قبل قيام الحرب الأولى.

لقد شهدت حربين عالميتين، رأيت قيامهما وقعودهما واشتعالهما وخمودهما، عشت دهراً وما في بلاد العرب ولا في أرض الإسلام بقعة لا يرفرف عليها علَم أجنبي (حاشا جزيرة العرب التي عصمها الله من أن تدقّ ثراها نعالُ جيوش أجنبية أو

<<  <  ج: ص:  >  >>