الدوام، وبعضهم يسرق جانباً من ساعات الدوام فلا يكون فيها في المكتب، وبعضهم يسوّف ويؤجّل ويدع أصحاب الحاجات يتقلبون من انتظار إنجازها على الجمر. وأذّن المغرب فقام ليلبّي داعي الله، وطلب كأساً من الماء فجاؤوه به، ولكن المقدار عاجله فلم يشرب الماء.
فقعدت أفكر: أهذه هي الدنيا التي نتزاحم عليها ونتسابق إليها ونجعلها أكبر همّنا؟ أفي مثل ردّة الطرف ولمحة البرق يصير الإنسان الحيّ الذي كان ملء الأنظار والأسماع ذكرى تُذكر وحديثاً يؤثر؟ أمّا كأس الماء فإني أسأل الله أن يشربها من أيدي الحور العين في جنة النعيم بفضل الله ورحمته، إننا ندعو ولا نملك له ولا لأنفسنا شيئاً.
ومن قبلُ فاجأني وهزّني نعي الشيخ إبراهيم بن عبد العزيزبن إبراهيم. ثلاثة عرفت آباءهم قبل أن أعرفهم.
أما الشيخ إبراهيم فكان فتى يافعاً يوم عرفت أباه وأنزلني ضيفاً عليه مع الشيخ ياسين الروّاف في قصر الإمارة، أيام مقامنا في المدينة المنورة. وقد جالست الشيخ إبراهيم يومئذ فرأيت ذهناً متوقداً وذكاء حاداً، ورغبة في العلم والأدب واطّلاعاً على آثار الكبار من أدباء ذلك الزمان، كالعقّاد والمازني والرافعي والزيات وهيكل (حسين لا حسنين). ثم سافرت وانقطع ما بيني وبينه، حتى قدمت المملكة سنة ١٩٦٣ وكان وكيل إمارة مكة المكرمة، فلم يُنسِه طول المدى ولا كبر المنصب أنني جالسته ساعات قبل نحو ثلاثين سنة، فدعاني. وحاولت -على عادتي- الفرار من الدعوة،