للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما كان مني إلاّ أن استأجرت سيارة حشرتهم فيها وأعدتهم إلى دار المرأة المسكينة التي أخذتُهم منها، وقلت لها: خذي استلمي الله يقوّيك ويعينك، أما أنا فقد رفعت الراية البيضاء وسلّمت واعترفت بالعجز.

* * *

أمضيت تلك الأيام، أيام الحج، في الرياض كما يُمضي السجينُ أيامَ سجنه؛ لم أكن أنظر إلى أحد لأنني لا أعرف أحداً، كنت أجول في الطرق وحدي لا يلتفت أحد إليّ، فأحسّ كأني صرت كالشجرة المغروسة على جانب الطريق أو العمود الذي حمل المصباح الذي يضيء في الليل الطريق، يراه الناس كلهم ولكن لا يهتمّ به أحد منهم. بل إن الشجرة والعمود كانت أثبت مني وجوداً وكان الناس أكثرَ بهما اهتماماً، لأنها إن قُطعت الشجرة أو انكسر العمود أحسّوا بفقدهما وسألوا عنهما، وأنا لم يكن يشعر أحدٌ إن حضرت أو غبت أو سرت في الطريق مع السائرين أو خلا مني الطريق.

إني لأذكر هذا الآن بعدما استمررت عشرين سنة بلا انقطاع أحدّث الناس في الرائي ومن الإذاعة، يسمعونني كل يوم ويرونني كل أسبوع. أفتحسبون هذا الذي صرت إليه نعمة؟ لا والله، حلفت لكم لتصدّقوا. ليست الشهرة نعمة يُستراح إليها ويُحرَص عليها، ولا ما كنت فيه في الرياض نعمة أرضى برجوعها؛ لقد فقدت هنالك شخصيتي وكدت أنسى وجودي، وأضعت هنا الآن حرّيتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>