ولكن الأسلوب الذي يُتّبع في هذه المادة في البلاد العربية التي عرفت أكثرها يزيدها هواناً على هوانها عند المدرسين والطلاب، إذ يُكلَّف الطلاّب، بل يُكلَّف التلاميذ في المدرسة الابتدائية الذين لم يبلغوا أن يُسمَّوا طلاباً، بالكتابة في موضوع يختاره لهم المدرس، ولا يكون في الغالب إلاّ موضوعاً بارداً بعيداً عن حياة الطلاب ميتاً لا روح فيه، ثم لا يرسم للتلميذ الخطة التي يسير عليها ولا ينصب له مثالاً ينحو نحوه أو يحتذيه. وأنا رجل قد احترفت الكتابة وأنا أكتب من ستين سنة، وما أخذت يوماً في درس الإنشاء درجة عالية.
اخترت درس الإنشاء لأني وجدت فيه مجالاً أتحرّك فيه. وقد تعجّب معالي الوزير الشيخ حسن لمّا علم رحمه الله أنني اخترت درس الإنشاء، وكان يراني أصلح لِما هو أكبر منه كالفقه أو النحو أو البلاغة، ولكني وجدت لها أساتذة يدرّسونها، ثم إني إن تسلّمت تدريسها كنت كالذي يمشي مقيَّداً في مجال ضيّق، قد رُبطَت رجلاه وكُتّفت يداه بمنهج محدود وكتاب معيَّن لا يملك أن يخرج عنه، ولا عمل له إلاّ أن يفسّر عبارته ويُظهِر مقصد مؤلّفه. كأنه وهو أستاذ في الجامعة يعلّم في مدرسة متوسطة، والجامعة إنما كانت ليتجاوز فيها الطالب عهدَ التلقّي وإعمال الذاكرة وحدها إلى عهد المناقشة وتشغيل الفكر، وأن يتولى هو العمل لا أن يعتمد في عمله كله على أستاذه.
وأنا مهما تمسّكت بفضيلة التواضع فلا أُنكِر أن لديّ ما أستطيع أن أدرّس به غير الإنشاء من المواد، فأنا طول عمري معتزل في بيتي أمضي أكثر يومي في ليلي ونهاري في المطالعة،