ولكني لمّا جئت الكلّيات، وهما كلّيتان: كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، والكليات جمع وإطلاق لفظ الجمع على الاثنين مذهب صحيح، فقد قال تعالى:{وداودَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِم شَاهِدين}. أقول: لمّا جئت الكليات وجدت للفقه بفروعه كلها أساتذة يدرّسونها هم أعلم مني، ولم أجد من علوم العربية خالياً من مدرّس إلاّ البلاغة. والعجيب أن الاهتمام كله كان في الكليات بالبلاغة، وأن الوقت أو أكثره لها. وأنا أرى أن دراسة البلاغة على هيئتها التي انتهت إليها الآن تكاد تكون تعباً في غير طائل، فهي لا تجعل دارسها بليغاً ولا تصله بروائع الأدب كما كانت أولَ أمرها، لمّا كانت نقداً منظَّماً يمشي مع الأدب، فكلما ابتدع الأدباء جديداً جاء هؤلاء النقّاد فوضعوا له اسماً وصنّفوه مع أشباهه ونظائره، حتى لخّص القزويني كتاب السكّاكي فوقفت البلاغة عند هذا التلخيص وعلقت به، فما استطاعت الخلاص منه ولا جاء من يُعينها على التخليص من قيد التلخيص. وانحصرت شواهدها في نطاق محدود، فلا يزال المدرّسون يكرّرونها ويعيدونها حتى ملّوا وملّ الطلاب منها، ولم يبقَ للبلاغة إلاّ نفع قليل في فهم بعض آيات الكتاب والسنّة وما وصل إلينا من روائع ما قال الأولون.
فاخترت مادة الإنشاء حين لم أجد غيرها. والإنشاء يضعونه في المناهج تكملة عدد لا يُقيمون له وزناً، ولو أنصفوا لجعلوه في رأس الموادّ التي يُطلَب إجادتها من الطلاب، لأن الدعوة إلى الله إنما تكون بالقلم واللسان، عليهما يقوم البيان وبهما يثبت الإيمان وتتفاوت أقدار الإنسان.