للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا كراكب الطيّارة الذي يسافر كأنه محبوس مصفّد بالأغلال، عالَمه الذي يستطيع أن يتحرك فيه ما بين مقعده والحمّام أو موضع التدخين، وإن كان سفرك طويلاً وكان جارك مزعجاً، أو كانت أماً معها أولاد لا يسكنون ولا يسكتون، كانت السفرة تعذيباً وعملاً شاقاً. ولقد ضايق الأولاد المضيفة (١) مرّة يَعْدون بين رجليها، يكادون يُسقطون طباقها وكؤوسها فقالت لهم: يا أولاد، اقعدوا أو اطلعوا العبوا «برّا»!

وكنت أنا وأختي من ركّاب الدرجة الثالثة، اخترناها لأن القطار لم يكُن فيه درجة رابعة! وما أكلنا في المطعم ولا عرفنا أن في القطار مطعماً يأكل فيه الناس، وما أدري فلعل قطارات تلك الأيام لم تكُن فيها مطاعم.

كنت مُقدماً على عالَم مجهول، فلا أخطو خطوة إلاّ بعد التفكّر في عواقبها. ووصلنا حيفا، ورأيت البحر أول مرة في عمري، ما رأيته قبلها. وكنت خائفاً ولكني أتجلّد وأتظاهر بالجرأة والمعرفة. هل أُطلِع أختي على تهيّبي وخوفي؟ ومشينا وأنا أوهمها أني أدري إلى أين أسير، وما كنت أدري شيئاً حتى رأيت لوحة فندق فدخلته، وكان أول فندق أدخله في حياتي.

قلت لكم إني لم أخرج من دمشق من قبل إلاّ إلى ضواحيها


(١) ذكر الشيخ -رحمه الله- هذه الطرفة مرة أخرى في الحلقة ١٠١ من هذه الذكريات، فعلّق عليها في مثل هذا الموضع بقوله: "وجود نساء مضيفات يسافرنَ بلا محرم ويَبِتْنَ حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب" (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>