للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعاركها ومظاهراتها، أما لبثَت في مطلع سنة ١٩٣٦ خمسين يوماً مُضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون؟ فتعطّلَت تجارة التاجر وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، يطوي ليلَه مَن لم يجد الخبز ويبيت بلا طعام، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، بل كانوا جميعاً: من العالِم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية، ولم نسمع أن دكاناً من هذه الدكاكين قد مُسّ أو اعتدي عليه أحد، ولم يُسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير.

فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في الدنيا في أوربا أو أميركا أو في المرّيخ، يسير فيه اللصوص جياعاً والمال معروض أمامهم فلا يمدّون إليه أيديهم حرمة للنضال؟ لقد بقي الأولاد في المعسكر العامّ في الجامع الأموي أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجرٌ محلّه ذهبوا فأغلقوه. ففتح حلواني، حلواني مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور الكنافة والبقلاوة، إلى المسجد. وتشاوروا بينهم: ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له. فصاحوا به: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلاّ جائع يشتهي قطعة منها.

فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريس ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟ وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدَعونها مفتوحة ولا يقتربون منها وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم، فلا يمدّ أحد يده إليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>