ويضرب بلا قصد، لا يبالي أين تقع يده، كأنه لا يفكّر برأسه الذي بين كتفيه بل بإبهاميه اللذين في قدمَيه، فيخرج من المعركة محطَّماً سواء في ذلك أكانت المعركة له أو كانت عليه.
وقد تركت من قديم خوض المعارك وابتعدت عنها وألزمني الكِبَر ابتغاء السلامة منها، ولكن غاظني من بعض المجلات أن فيها صفحة للأدب ولكن ليس فيها أدب، ما فيها إلاّ كلام مصفوف بلا نظام مرصوف بلا إحكام، ألفاظ لها مثل صوت الطبل وهي فارغة فراغ الطبل. يُعلِنون عن القصيدة الجديدة للشاعر الكبير، فتأخذ أنت المجلة فلا ترى قصيداً ولا رجزاً ولا موشَّحاً ولا شيئاً مما يُقال له شعر، ولا ترى شاعراً كبيراً ولا صغيراً ولا وسطاً بين الكبير والصغير، ما ترى إلاّ صافّاً كلاماً لا تفهم منه شيئاً لأن كاتبه ما عنده شيء يريد أن تفهمه منه.
يقولون إنه «الغموض» وإن من مزايا الشعر الحديث هذا الغموض. لقد عرّفه شاعر فرنسي عبقري مشهور عُرف به هو بول فاليري، الذي ألقى عنه محاضرة سبق أن أشرتُ إليها وبيّنت رأيه فيها، وهو صاحب القصيدة التي اشتهرت في الأدب الفرنسي الحديث، «المقبرة البحرية»، فكانت قطعة أدبية رائعة ولكنها غامضة، فكان كل ناقد يفسّرها تفسيراً جديداً، حتى إن أستاذاً جامعياً يهودياً اسمه كوهين ألقى محاضرة في شرحها حضرها الشاعر نفسه، فلما انتهى منها قال له: شكراً، لقد أفهمتَني شعري! فما عرف الناس أيشكره حقيقة أم يسخر منه.