قلت لكم إننا كنا نقعد على الأرض، على حصير قديم لعلّ تحته حديقة حيوانات صغيرة فيها من كل حشرة زوجان! وإن علينا أن نقرأ النهار كله، أو نحرّك ألسنتنا ونُخرِج أصواتاً كأننا نقرأ، وأن نضجّ ضجّة مستمرّة يسمعها مَن يمشي في الطريق فتكون إعلاناً عن الكتّاب، يقول للناس:"أنا هنا"، ويا ليته ما كان هناك! وإننا كنا نختلس قضمة من الطعام الذي حملناه معنا ووضعناه بين أيدينا، فإن رآنا الشيخ بعينه تناولَتنا يده بعصاه وهو قاعد مكانه لا يفارقه، لأن بين يديه عصيّاً ثلاثاً: طويلة وقصيرة وعصا بين الطول والقصر، ينظر مكان الصبي ثم يتناوله بالتي تصل إليه منها.
والشيخ دائم العبوس، لا يبتسم إلاّ يوم الخميس حين يأتيه الولد بالخميسية، وهي الأجرة المفروضة عليه. وتكون سعة ابتسامته بمقدار كثرة القروش التي تُحمل إليه! ثم يعود إلى العبوس والتقطيب، كأنه شمس شباط (فبراير) في الشام حين تُطِلّ لحظات ثم يطويها تراكم السحاب.
أخذني جدي إليه فاحتفل به شيخ الكُتّاب احتفالاً عظيماً، لِما كان له من العلم والفضل والوجاهة أو لِما يطمع فيه من خميسيته المباركة. وبالغ في هذا الاحتفال حتى إنه وضع حذائي تحت سريره إلى جنب حذائه، أي حذاء الشيخ، وكان ذلك شرفاً عظيماً ما ناله من قبلي أحد. وما أدري أكان ذلك لمجرد الحفاوة والإكرام أم لزيادة التضييق والمراقبة، ولكن الذي أدريه أن جدّي قد خرج، فذهبت لألحق به فأمسكوني وأجلسوني عنوة، ولمّا صحت وبدأت أحتجّ لوّح الشيخ بعصاه فوق رأسي وكشّر لي عن أنيابه، فتكونَت في نفسي تلك اللحظة النفرة من المدرسة