للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حدّثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي وزاد إليها اشتياقي. حدّثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن الميزان: ألا يزال مثابة الطهر وموئل الجمال وجنّة الدنيا؟ ألا يزال السُّراة والتجار يصلّون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حقّ النفس بالتأمل كما قضوا في المساجد حقّ الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين ويعطيهم نعيم الدارَين؟ ألا يزال زاخراً بحِلَق الأحباب وجماعات الصحاب عاكفين على سَمَاوَرات الشاي، يشرفون على قَنَوات وباناس (من فروع بردى) وهما يخطران على العَدْوَة الدنيا من الربوة متعانقَين متخاصرَين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمَين خلال الورد والفلّ والياسمين كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة فيُلقيان عليهما حجاباً من زهر المشمش والرمّان، وعلى العَدْوَة القُصوى زوجان آخران حبيبان يمضيان يتناجيان: يزيد وتورا؟ وبردى، ألا يزال يدبّ في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بَنيه، ثم يلوي عن مشهدهم بصره وينطلق في طريقه لا يبالي، عاف الحب وملّ الغرام، وعلّمته تجارِب العمر أن كل ما في هذه الحياة باطل إلاّ ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو ومتاع زائل؟

وقاسيون، الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وماانفكّ شاباً، وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشِخ. ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة الملك الجبار، قد رفع رأسه ومدّ ذراعيه فأحاط بهما دمشق وغوطتَها من الرَّبْوَة إلى بَرْزَة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب؟ واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس، ألا تزال الشمس تضحك لبردى

<<  <  ج: ص:  >  >>