أعني أنها أعادت إليّ ذكراها، أما الأيام فلا يستطيع أن يُعيدها أحد. فكنت من فرحي بها أمسك مجلداً أقلّب فيه وأدعه فأمسك آخر، لا أملّ الرجوع إليها ولا النظر فيها، فوجدت مقالات لي عن دمشق كثيرة، دمشق التي أحبّتني حيناً كما أحببتها ثم أعرضَت عني وأولتني الصدّ بدل الودّ، وما عدلت أنا عن ودّها ولا جزيتها صداً بصدها، بل قلت ما قاله الشاعر القديم:
وإنّ الذي بيني وبينَ بني أبي ... وبينَ بني عمّي لمُختلفٌ جدّا
وبعد، فهذه المقالة كنت ناسيها، فلما وجدتها أحسست كأني وجدت بها الشباب، أروي منها ما يتّسع له المقام (١):
دخلت مخزناً في القاهرة (وكنت تلك السنة مقيماً فيها) أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ كبير السنّ أبيض الشعر، كأن رأسه ولحيته -كما يقول العرب- الثَّغَامَة (وإن لم أرَ إلى الآن شجرتها ولم أعرف حقيقتها)، فالتفت إليّ وقال: أنت من دمشق؟ قلت: نعم. فسطع على وجهه نور وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة أحسستُ أنها مرّت في رأسه، وأخذ بيدي هاشّاً لي باشّاً في وجهي فأقعدني معه وقال لي: