والثالثة: أني شهدت مولد الجمعيات الإسلامية فحملت خبرها إلى دمشق. وكان في دمشق جماعة من كرام التجار وبعض طلبة العلم يتلاقون -على عادة الشاميين- في «دَوْر» بينهم. والدور أن يجتمعوا أياماً معدودات عند واحد منهم، اجتماعاً فيه تسلية وليس فيه معصية، فإذا كان اليوم الأخير في دور الرجل صنع لهم صنيعاً: صدر كنافة أو صينية قوزي، أو الصفيحة والشعيبيّات، وهي أكلات لا يغني سماع وصفها عن ذوق طعمها، ولا يعرف مذاقها إلاّ من ذاقها.
والذي عرّفني بهم وأخذني إليهم رجل كان أحد الذين أثّروا في حياتي وأفضلوا عليّ، رجل عاش عمره كله من غلّة ضيعةٍ له في حرستا قرب دوما، فلم يكُن يعمل ليكسب مالاً بل ليكسب أجراً: لا يقع منكر إلاّ كان أول من يسرع إلى إنكاره، ولا يسمع بمحتاج إلاّ كان أول من يجمع له ما يسدّ حاجته، لا يبالي في سبيل ما يراه الحقَّ بعُرْف مجتمَع ولا بمداراة إنسان، لا يفرّق عندما ينطق بالحقّ إن كان الذي أمامه بوّاب المدرسة أو وزير المعارف. كان الشيخ تاج الدين الحسني قريبَه (١)(ابن ابن عمته) فكان ينصحه وقد يُغلظ له القول، وإن رأى منه انحرافاً ردّه إلى الصواب. وكان موقفه من كل رئيس أو وزير يلقاه كموقفه من الشيخ تاج، رئيس الدولة ثم رئيس الجمهورية، ذلك لأنه كان مؤمناً معتمداً على الله ولأنه كان مستغنياً بضيعته عن مال الحكّام،
(١) الشيخ تاج الدين هو ابن الشيخ بدر الدين محدّث الشام الأكبر، وهو خال جدّتي لأمّي. كان رئيساً للوزارة مرتين ثم رئيساً للجمهورية في عهد الفرنسيين، وكان مسايراً لهم ماشياً في ركابهم (مجاهد).