للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وألقيت بعدها محاضرات الله أعلم بعددها، ولكن الناس نسوا ونسيت أنا ما قلت فيها، وهذه طُبعت فبقيَت فيا ليتني طبعت كل محاضراتي! وهل تنفع شيئاً «ليت»؟

هل تصدّقون أني لمّا قرأتها كنت أحس كأني أقرأ شيئاً كتبه غيري. قلت لكم في مطلع هذه الذكريات إن الإنسان في تبدّل دائم: خلايا جسده، ميول نفسه، كثير من أفكاره ... وممّا يتبدّل في الكاتب أسلوبه. وإن كان في كل ما يكتب أمارة تدل عليه؛ شيء في المقالة تحسّه ولا تلمسه يخبرك أن كاتبها فلان وإن لم يكُن في ذيلها اسم فلان، وهذا الشيء هو الأسلوب. لقد حاول النقّاد تعريف الأسلوب تعريفاً منطقياً بعد أن عرّفوه معرفة حسّية فلم يقدروا له على تعريف، فكأن أسلوب الرجل في خصائصه هو الرجل نفسه كما قال «بوفون». إنك تميز زيداً من عمرو من شكله من صوته، من مشيته، لكنك لا تستطيع أن تقول كيف ميّزتَه. وتعرف أن ليلى جميلة وأن المتنبي عبقري، ولكنك تعجز عن تحديد سرّ الجمال في ليلى: هل هو في عينيها أم في بسمة شفتيها؟ وعن حصر عبقرية المتنبي: هل هي في تركيب ألفاظه، أو في اختراع معانيه، أو في حكمه وأمثاله التي سارت كل مسار؟

* * *

فرحت بهذه المحاضرة إذ وجدتها مطبوعة، وأحسست كأنها صورة التُقطت لي في مرحلة من عمري ليس عندي نسخة منها، وقد مضى زمانها وتبدّلت أنا حتى كأني غير صاحبها. صورة لي في المراحل الأولى من سفرتي الطويلة على طريق الأدب. إنها

<<  <  ج: ص:  >  >>