للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبعد، وهذا مثال الماضي والمستقبل.

لو جاءني من يقول لي: أمنحك منيحة، داراً أعْمرك (١) إياها، تسكنها خمسين سنة تردّها بعدها، لرأيت ذلك أمداً بعيداً يسرح الأمل خلاله ويعجز التصوّر عن إدراك مداه. خمسون سنة؟ ما أطولها! ولكني أذكر الآن ما كان قبل خمسين سنة فأقول: ما كان أقصرها! إني أراها كأنها أمس القريب.

تنظر إلى رمضان في أول يوم منه فتراه طويلاً وتفكر كيف تصومه، فإن نظرت إليه الآن بعدما مضى وانقضى أحسست كأنه كان ساعة واحدة.

إن أجلّ فائدة استفدتها من كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي لمّا نشره أخي وكتبت مقدمته الطويلة هي أنه: ما منا إلا مَن نال لذّة في معصية أو حمل ألماً في طاعة. في رمضان هذا الذي صمناه من قريب حملنا مشقّة الجوع في يومه الطويل والعطش في حرّه الشديد، وكنا نشتهي في النهار كوباً من الماء البارد نشتريه بالثمن الوفير وطَبَقاً من الطعام الشهيّ ندفع فيه الكثير، فما الذي يبقى من تعب الصيام بعد أن يؤذّن المغرب فنأكل ونشرب؟ والذي غلبَته نفسه وسيّره شيطانه، فأفطر في رمضان وأعطى نفسه شهوتها وأتبعها لذّتها؟ ماذا بقي الآن من هذه اللذّة ومن ذلك الألم؟

وتَصوّرْ ساعة الموت وفراق هذه الدنيا، تجد أن اللذّات


(١) هذه هي العُمرى، وتسمّى في القانون المدني «حق الانتفاع».

<<  <  ج: ص:  >  >>